إعلان

"سوف نهزمك" أم.. "سوف نجعلك ترقص"؟!

د. أمل الجمل

"سوف نهزمك" أم.. "سوف نجعلك ترقص"؟!

د. أمل الجمل
09:00 م الأحد 17 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أعترف أن الشغف الذي تملكني واستحوذ عليَّ لسماع موسيقى الروك، والبحث عن أهم مطربيها، ومحاولتي لفهم ما وراء معاني كلماتها حدث مؤخراً، منذ أسابيع قليلة فقط بسبب شرارة أطلقها بداخلي فيلم "بوهيميان رابسودي" أو "القصيدة الملحمية البوهيمية"، الذي يحمل عنوان أشهر أغنية عند فرقة الروك البريطانية "كوين" والتي حققت أعلي الإيرادات بالعالم وظلت متربعة على القمة نحو تسعة أسابيع في إنجلترا عندما ظهرت للوجود في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وهو الفيلم الذي قام ببطولته الممثل الأمريكي من أصول مصرية رامي مالك مُجسداً دور فريدي ميركوري - أو فاروق بولسارا - المطرب الرئيسي والمؤسس لفرقة "كوين" التي تُعد إحدى أهم وأشهر فرق موسيقي الروك عبر العصور. ونال الفيلم أربع جوائز أوسكار منها جائزة لرامي مالك كأفضل ممثل في دور أول، إضافة لجوائز أخرى كثيرة حصدها رامي، ولايزال.

نعم، لم أكن من عشاق موسيقي الروك، ولم أكن يوماً مهتمة بسماع أغاني مطربيها، إلا بمحض الصدفة البحتة. ربما باستثناء تلك الأناشيد في مباريات كرة القدم مثل "سوف نجعلك ترقص"we will rock you ، و"نحن الأبطال" We Are the Champions اللتين أصبحتا من الأغنيات المعتادة والمفضلة لكثير من الجماهير الرياضية وعشاق كرة القدم في الملاعب.

فالإيقاع الموسيقي للحن في كل أغنية تم تقديمها بالفيلم كان ساحرًا، وطاغيًا، بل قادرًا على جعلي أنتعش وأرغب في الرقص، واستعادة حب الحياة بشكل لافت، لكن في نفس الوقت كنت أشعر أن بعض كلمات الأغاني يكتنفها الغموض، وأنها غير واضحة لي تماماً وكأنها تحمل معاني رمزية أبعد من المعني المباشر. كنت على يقين بأنه من الصعب أن تكون فرقة بمثل هذا النجاح والتأثير ثم تكتب كلمات لا تُضاهي قوة اللحن والإيقاع، فبدأت البحث والتنقيب.

أين المسيح في الأغنية؟!

أول أغنية توقفت أمام كلماتها تلك التي تحمل عنوان الفيلم ذاته "بوهيميان رابسودي" Bohemian Rhapsody .. خصوصا أن بها كلمات مثل "جاليليو"، "فيجارو"، "بسم الله". وكلمات تتحدث عن قتل رجل؟! إضافة إلى إشارات عن حياة تبدأ وأخرى تنتهي، عن شعور ورغبة في الرحيل وترك العالم، ثم في لحظة تالية اعتراف صريح بالتشبث بالحياة في نفس الوقت.

لكي نفهم المعني والقصد غير المباشر من الأغاني كان لا بد من فهم شخصية مؤلف الكلمات خصوصا عندما نتيقن أنه كان مثل كثير من المبدعين يستمد كلمات أغنياته من مواقف حياتية يمر بها، وإذا قرأنا ظروف حياته في سياق ظروف عصره، وربما علاقته بالفرق المنافسة في نفس الحقبة الزمنية سنفهم بلا شك المعاني المخبأة بين سطور وأبيات الأغاني.

فعندما نعلم أن فاروق بولسارا القادم من عائلة فارسية عاشت في كل من الهند وزنجبار - كانتا تحت الحكم البريطاني - قبل انتقاله مع عائلته الفقيرة إلي انجلترا في الستينيات، وأنه تحدى ظروفه الاجتماعية، وهويته التي جلبت عليه كثيرًا من العنصرية، فاخترع لنفسه اسماً فنياً وحمله في أوراقه الرسمية "فريدي ميركوري"، مؤكدا أنه لا عودة للخلف، فقط السير للأمام. لو علمنا أنه في لحظة ما من حياته اكتشف ميوله المثلية، فقرر أن يعيش شخصيته وهويته الجنسية كما هي من دون أن يُنكر رغباته، لأدركنا معني كلمات أغنيته التي يردد فيها: "ماما.. لقد قتلت للتو رجلا…" فالقتل هنا رمزي، بسبب التحول في الهوية الجنسية، ولفظ "البوهيمية" تحمل إشارة للطابع الحياتي الذي عاشه وللفن الذي أبدعه.

فالبوهيمية هي الحياة خارج الثقافة التقليدية السائدة، والتي تتضمن التمرد على التقاليد السائدة، إنها الحياة بحرية كبيرة إن لم تكن مطلقة، والبوهيمية مرجعها حركة فنانين وشعراء ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، عاشوا في باريس، وتمردوا على المؤسسة المسيطرة على الأدب والفن في فرنسا حتى مطلع القرن العشرين وكانوا ضدها، مؤمنين بضرورة التطرف التعبيري في الفن والأدب.

بالعودة للأغنية سنجدها تحمل تعبيرًا عن ارتباك مشاعر البطل وتعقدها بداخل نفسه رغم روحه البوهيمية، فهو يقول: "أري ظلاً صغيرًا لرجلٍ.. برق ورعد وصواعق .. ترعبني جدًا"، ثم بعدما يتهيأ للرحيل بقوله: "فات الأوان.. قد حان وقتي.. إلى اللقاء جميعًا.. سأترككم وأرحل" لكنه يعود فيقول: "لا أريد أن أموت.. أحيانًا أتمنى لو لم أولد من البداية" وسرعان ما يستغيث بالمسيح المخلص، وبكلمات من ثقافتنا الإسلامية مثل "باسم الله".

وقد يتساءل البعض ممن حفظوا الأغنية عن ظهر قلب: أين ما يُشير إلى لفظ المسيح أو الاستغاثة به في تلك الأغنية؟! والإجابة هي؛ أن لفظ "جاليليو" - الذي يُردده أعضاء فرقة "كوين" خمس مرات - لا يشيرون به إلى الفلكي الرائد الشهير، وإنما "جاليليو، فيجارو، ماجنيفيكو" شيء آخر تمامًا.

إن تلك العبارة الأساسية تكشف المعنى الكامل للأغنية، التي تتكون من خمس مقاطع في ست دقائق؛ مقدمة، مقطع ترنيمي أو مقطع ثان عبارة عن نشيد أو قصية أو ترنيمة "رابسودي"، ثم فقرة أوبرالية، وجزء آخر ينتمي لموسيقى الهارد روك، ثم ختام تأملي. إذًا تلك الـ"رابسودي" بهذا التكوين والبناء الغنائي تُفسح مساحة للتعبير الحر، تُعبّر عما يُثير المشاعر والعاطفة القوية. إنها مقطوعة موسيقية تمت كتابتها من دون أن تتقيد بقالب محدد.

حلاق إشبيلية

أما لفظ "جاليليو" فهو اسم يسوع المسيح في روما القديمة. وترجع أسباب تكرار اللفظ خمس مرات لأن المؤلف يعتمد على التناص الشعري حيث يتم تكرار لفظ فيجارو خمس مرات أيضاً. إن فريدي ميركوري يُحيل المعني الرمزي في تكرار "جاليليو" إلي شخصية فيجارو في أوبرا "حلاق إشبيلية" تلك الأوبرا الكوميدية التي أعاد كتابتها وإبداعها - بأسلوب جديد آخاذ عام ١٨١٦ - جواتشينو روسيني، فلاقت نجاحًا كبيرًا وأصبحت تُصنف باعتبارها من أهم عشرين أوبرا علي مر العصور.

العلاقة بين فيجارو أوبرا "حلاق إشبيلية" وجاليليو في أغنية "بوهيميان رابسودي"؟! التي يتكرر بها أيضاً لفظ فيجارو خمس مرات. أن فيجارو في العمل الأوبرالي كان رجلاً سليط اللسان ولكنه منقذ ومُخَلِّص الحبيبين من المخطط الذي تم تدبيره لإفشال زواجهما. فالأحداث تدور حول قصة حب بين الكونت الشاب ألمافيفا والشابة روزينا اللذين يرغبان بالزواج، إلا أن بارتولو الوصي على روزينا طامع بأموالها ويريد الزواج منها. هنا يظهر الحلاق فيجارو، الذي يتمكن من إفشال مخطط بورتولو، وينتهي العمل نهاية سعيدة.

إذًا، تكرار النداء، والربط بين جاليليو وفيجارو يُحيل إلى تماثل الأدوار، فكل منهما يلعب دور المُخَلِّص. والتكرار خمس مرات هو نداء استغاثة لإنقاذه من الكابوس الرهيب. إنها الطريقة الوحيدة للخروج من الكابوس الشيطاني المستحوذ على الشاب الذي استبدل للتو هويته الجنسية بكل هواجسه وارتباكاته، إن اللفظ مديح، وتمجيد، إنه ليس فقط مجرد طلب للمساعدة من يسوع المسيح وإنما استغاثه به.

سوف ترقص معنا.. ونهزمك

فماذا إذًا عن we will rock you ؟! وهل معناها "سوف نهزمك" أم "سوف نجعلك ترقص روك"؟!

إن المعني المباشر والظاهري للأغنية: "سوف نجعلك ترقص روك"، لكن المعني المتواري الذي نفهمه عندما نقرأ ظروف وملابسات إنتاج الأغنية سنجده يتضمن معني "سوف نهزمك". كيف ذلك؟

لم يكن فريدي ميركوري من الشخصيات التي تسعى لإثارة المشاكل والعداءات مع الفرق الأخرى المنافسة، لكن سِد فيشيوس المغني وعازف الجيتار بفرقة "البانك روك" سخر ذات يوم من أعضاء فرقة

"كوين"، فرد عليه ميركوري بهدوء لاذع، وعندما صورت فرقة "البانك"، أغنية Kiss - Rock & Roll All Nite فما كان من "كوين" إلا الرد عليهم بأغنية "we will rock you"؛ لتحمل معنى "سوف نهزمكم، ونجعلكم ترقصون الروك الذي تسخرون منه"، وما يُؤكد ذلك المعني ليس فقط أن "كوين" جعلت الجمهور يرقص ويغني كلمات أغنيتهم في إيقاع حشدي رهيب وأسطوري، ولكن أيضاً الكلمات بأغنية "كوين" تُشير إلي "الوحل" أو الطين علي الوجوه، وكذلك الدماء والضجيج والجلبة المفتعلة والمزعجة، ففي أغنية "البانك" يضعون مكياجًا مبالغًا فيه كأنما ارتدوا "الوحل" على وجوههم، ويبصق أحدهم الدماء من فمه بشكل مقزز على خشبة المسرح، وكانوا يصدرون ضجة كبيرة كأنما يُغطون على عدم التميز.

هنا، قام برايان ماي - الذي لا يزال على قيد الحياة، ويقيم الحفلات إلى الآن مع عازف درامز فرقة "كوين"، روجر تايلر والذين شاركا كمستشارين فنيين بفيلم "بوهيميان رابسودي"- بتأليف إحدى أعظم أغنيات الفرقة، لكن فريدي ميركوري وشركاءه جميعًا حولوها إلى صيحة متجددة الحياة، فترددها الحشود من مشجعي موسيقى الروك في كل مكان، بينما لا أحد يتذكر - أو ربما القليل جدا - أغنية فرقة "البانك".

وهكذا، فإنه يمكن تأويل أغنية "we will rock you" في المستوى الأول من المعاني بأنها - ظاهريا تقول إننا سوف نجعلك ترقص روك، ثم في مستوي آخر تحكي عن شخص يحاول طوال حياته أن يفعل شيئا أو يقدم سببًا أو عذرًا لفشله، ومع ذلك فهي تحكي عن الحياة، حياتنا جميعاً وكيف كنا أطفالاً نركل علب الصفيح كالكرة، ونصنع ضوضاء مزعجة، وحين نكبر ونصبح شبابًا نقاتل من أجل وهم كبير بأننا سنصنع شيئا عظيمًا، وأننا سنمتلك العالم، ثم بعدها كيف نصبح كبار السن عاجزين واهنين. لكن الأهم أنه في كل مرحلة ستجد مَنْ يُحبطك، أو من يُحاول تدمير معنوياتك فيقول لك "سوف نهزمك، وندمرك" وبالطبع على الإنسان ألا يستسلم لهؤلاء، ويقاتل من أجل تحقيق أحلامه بعيداً عن إحباط المجتمع.

إذًا تدعو الأغنية للتفاؤل، رغم كونها عن السطوة والسيطرة من دون قوانين، خصوصًا سطوة المجتمع الذي - طوال الوقت - يضع العقبات في طريقك.

إعلان

إعلان

إعلان