إعلان

اقتصاديات الصحافة.. فرصة جديدة للازدهار

أشرف جهاد

اقتصاديات الصحافة.. فرصة جديدة للازدهار

أشرف جهاد
09:00 م الأربعاء 08 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يبدو أن حكومة مصطفى مدبولي- بشكل أو بآخر- أعطت قبلة الحياة للصحافة دون أن تدري أو تخطط.
فبعد سنين من الوقوع بين مطرقة تطوير الذات وملاحقة عصر صحافة الموبايل، وسندان عدم وجود جدوى اقتصادية فارقة للتحول من الورقي للإلكتروني، بل فقدان مصادر دخل، تبدو الآن الفرصة سانحة أمام الصحافة لتستعيد عوائدها المالية المهدرة، فقط إن أحسن صناعها، وطوروا نماذج ربحية أكثر كفاءة لاستغلال التقدم الجديد الذي أحدثته الحكومة كحدث عارض بقرارها إلزام المواطنين بسداد المعاملات الحكومية إلكترونيا بداية من مايو الجاري.
ومنذ التحول الاضطراري السريع من الصحافة المطبوعة إلى الصحافة الإلكترونية، تعاني الصحافة من هدر مستمر لجزء من مواردها الرئيسية: عائد التوزيع وشراء المطبوعة (القراءة مدفوعة الثمن)، ونسبة كبيرة من عائد الإعلانات.

الهدر الأول.. توزيع مجاني

خسارة عوائد التوزيع كانت حتى بشارة الأول من مايو المقبل تبدو بلا حل، لكن بداية التوسع في الدفع الإلكتروني بادرة أمل، على إدارات المواقع أن تستغلها بشكل سريع.
ما كان يبدو، في وقت سابق، طريقا لنزيف جديد وخسارة نسبة كبيرة من الجمهور بلا عائد، بات من الممكن أن يتحول إلى مغامرة تحريرية تعود عليها بمكسب اقتصادي سريع وتشاركي وينقذها من السقوط كليا في يد المعلنين.
الآن باتت قاعدة الجمهور القادر على الدفع الإلكتروني أعرض. بعبارة أهل السوق، أصبح الجمهور المستهدف كله يعرف طريقة شراء الخدمات الإخبارية بالطريقة الجديدة، هذه التي تتوافق مع الوسيلة والمنصة التي فرضت نفسها علينا منذ سنوات.
ولم يعد على الإدارات المهنية سوى استغلال الفرصة وكسب رغبة الجمهور في شراء خدماتها الإخبارية والإعلامية. الدفع للموقع كأنك تشتري جريدتك المفضلة، فقط علينا تطوير نماذج ربحية/تحريرية تشجع الجمهور للإقدام على هذه الخطوة.

هل يرغب جمهورنا في الدفع مقابل الخدمة الإعلامية الإلكترونية؟

ربما يطرح هذا السؤال نفسه كثيرا في نقاشات الإدارات الإعلامية المختلفة، وفي الأغلب ينتهي الحال بتصور تشاؤمي أنه لن يفعل ذلك في عصر الانفجار الإخباري المجاني.
لكن الحقيقة، لدينا- هنا في مصر- تجربة واقعية للدفع مقابل الخدمات الإلكترونية.
عندما اشترك عشرات الآلاف في خدمات الرسائل النصية الإخبارية الـSMS، وليس فقط في خدمات الأخبار العاجلة لكن أيضا في خدمات المنوعات والتكنولوجيا والمرأة والصحة والاقتصاد وحتى العقارات والأبراج.

كانت الرسائل النصية وقتها تعطي خدمة مضافة، الوصول للأخبار بطريقة أسرع، والحصول على حزمة من خدمات الترفيه والمعلومات الاقتصادية والصحية التي لم تكن متوفرة وقتها مجانا بالشكل نفسه.

لكن القيمة المضافة هذه لم تعد موجودة الآن، ولم نطور نموذجا تحريريا ربحيا مماثلا، وأخذ مشتركو هذه الخدمة في التقلص حتى باتوا على وشك الفناء حاليًا.
ما ينقصنا الآن، هو استغلال الأدوات الجديدة، وتوسع جمهور الدفع الإلكتروني، وتطوير خدمات ونماذج تحريرية ربحية تقدم خدمات متميزة للجمهور، وتقنعه بالدفع مقابلها لتكسب المؤسسة موردا ماليا جديدا.

1- جدران الدفع (Pay wall)

ربما تتذكر عرض الصحف عند بائع الجرائد، وحرصه على استعراض مانشتات الصفحة الأولى، أو بالأحرى الجزء الأعلى من الصفحة الأولى.
وربما إذا كان عمرك تجاوز الثلاثين، تتذكر كيف كان مهما الاهتمام بالصفحة الأولى والغلاف وعناوينهما باعتبارهما أهم عنصر تسويقي/ تشويقي لجريدتك أو مجلتك، فهما محفز القارئ غير الدائم على اتخاذ قرار الشراء.

وربما تتذكر القاعدة التحريرية والتسويقية التي تحذر من أن تكون مانشتات جريدتك تسوق لمحتوى غير موجود لديك.
حسنًا، هناك أداة جديدة أعادت المفهوم نفسه. تقديم خدمات مجانية للعرض والتسويق وأداء وظيفة الصحافة في الإخبار، وأخرى مدفوعة تقدم قيمة مضافة بشكل كافٍ لإقناع القراء بالدفع مقابل المعرفة والقراءة. هذه الأداة هي «جدران الدفع».
وفي التجارب الغربية، تختلف آلية عمل جدران الدفع من جريدة لأخرى، هناك جرائد تقدم محتوًى مجانيًا يكون في الأغلب إخباريًا سريعًا، ومحتوى آخر مدفوعا بالكامل يكون في الأغلب تقريريا وتحليليا وتحقيقيا.

كما أن هناك مواقع تقدم جزءا من الخبر أو التقرير بشكل مجاني، وعليك أن تدفع مقابل إكمال القراءة، سواء أكنت ستسدد أموالا مقابل القراءة ليوم واحد أو لأسبوع أو شهر.
وهناك مواقع تتيح لك قراءة عدد معين من المقالات بشكل مجاني، وبعد تجاوز هذا العدد عليك الدفع مقابل إكمال التصفح. بعض هذه المواقع يضع الحد الأقصى للقراءة المجانية اليومية والآخر للقراءة طيلة أسبوع أو شهر أو ربما للأبد.
التجارب الأكثر إلهاما كانت من المواقع التي تمتلكها مؤسسات لديها جرائد عريقة، فقد قررت هذه المؤسسات إجراء تحول تدريجي لتشجيع القراء على الدفع مقابل الخدمة الإلكترونية، عبر فتح المحتوى الإلكتروني المدفوع لقراء الجريدة المطبوعة عبر بار كود أو رقم سري بكل طبعة. أو طرح باقات اشتراك يومي- شهري سنوي للحصول على النسخ المطبوعة وقراءة المحتوى الإلكتروني المدفوع.

ورغم خسارة بعض المواقع جزءا كبيرا من جمهورها- يقدر بالثلث في أغلب الأحيان- مع تحولها من المحتوى المجاني بالكامل للمحتوى المدفوع جزئيا أو كليا، فالأرباح المالية كانت تستحق المغامرة، والبعض نجح ليس فقط في الكسب المادي، بل استرداد الجهور المفقود وكسب متابعين جددا لأنها استثمرت الأرباح في إنتاج محتوى أكثر تميزا.
السؤال الأهم في هذه النقطة هو ماذا يمكن أن نقدمه للجمهور حتى نقنعه بالدفع للحصول عليه؟ وهو سؤال إجابته تحريرية/ تسويقية في الوقت نفسه.

وليس هناك إجابة مثالية للوفاء بهذا الأمر، لكن ينبغي على الإدارات التحريرية تطوير محتواها الخاص المميز الذي يشجع جمهورها على الدفع مقابل الحصول عليه.
في تجربة الربح من «جدران الدفع» عليك التذكر دائما أن نجاحك يرتبط ليس فقط بتقديم محتوى مميز، لكن أولا بوصولك لقاعدة واسعة من الجمهور المنتظم، وتفيد التجارب السابقة بأن الجمهور لا يدفع فقط من أجل المحتوى المتميز، لكنه يدفع أيضا مقابل التجربة الإجمالية التي يحصلون عليها.

وهناك محاور عمل رئيسية إذا أردت العمل بـ«جدران الدفع»، أولها أن على مؤسستك تطوير أساليب قياس النجاح، فمقاييس مثل عدد الزيارات والوقت الذي يقضيه القارئ في الموضوع، ليست المعيار المفيد الذي يعظم أرباحك في هذا النموذج الاقتصادي، لكن معايير أخرى مثل زيادة الجمهور المنتظم والاشتراكات تصبح هي معيار النجاح الرئيس.
فالقصة التي تحصد قراءات بالملايين دون أن تجذب أي مشترك جديد أقل قيمة من قصة لم تتعد مشاهداتها الآلاف، لكنها تركت انطباعات إيجابية، وتدفع قراء للاشتراك في خدمتك.
باختصار: عليك أن تغير نظرتك للجمهور من مجرد أرقام للقراءة والمشاهدة من شخص عابر إلى وجود مستمر لقارئ منتظم تتواصل معه بشكل دائم لضمان الوفاء بمتطلباته.

2- الخطابات الإخبارية (News letter)

رغم انتشارها في الدول الغربية والعربية، بل تحولها في بعض الأحيان لمؤسسة قائمة بذاتها، لا تنشر في أي منصة بديلة سوى في الخطاب الإخباري الصباحي أو المسائي، اليومي أو الأسبوعي الذي تتلقاه على بريدك الإلكتروني، فهذه النافذة المهمة لا تزال مهملة في الصحافة المصرية.
صحف قليلة في مصر والوطن العربي بدأت في استخدام هذه النافذة، لكنها تستخدمها كأداة هامشية لمجرد التسويق لخدمات الموقع الإلكتروني، لذا فشلت في كسب جمهور وفي يتابع الخطابات الإخبارية بشغف، ويجني منها فائدة/ قيمة مضافة قد تقنعه بالدفع مقابلها.

على عكس نماذج مضيئة قليلة مثل نشرة إنتبرايس الاقتصادية التي باتت وجبة يومية لأغلب رجال المال والأعمال والصحفيين.
وربما تكون هذه النافذة/ المنصة الجديدة أداة مهمة للانتقال السلس للمواقع الإلكترونية التي لا تمتلك مطبوعة ورقية من الخدمات المجانية بالكامل للخدمات الإضافية مدفوعة الأجر، قبل البدء في الخطوة التالية وهي الدمج بين المحتوى المجاني والمدفوع على الموقع الإلكتروني.
ويرتبط تحويل النافذة الجديدة إلى نموذج ربحي بتطوير قالب تحريري/ ربحي مميز، يقدم قيمة مضافة للقراء. قيمة مضافة تحول النيوز ليتر إلى منصة جديدة للمؤسسة الإعلامية قائمة بذاتها، وقادرة على أن تدر دخلا وإعلانات.

3- خدمة واتس آب

في السابق، كان الجمهور يدفع اشتراكات شهرية للجرائد عبر شركات المحمول مقابل تلقي رسائل إخبارية بالأحداث العاجلة أو المواضيع التي تحظى باهتمامه.
كانت الرسالة محدودة بعدد كلمات قليل، وكان هناك حد أقصى لعدد الرسائل اليومية. الآن يمكننا إرسال رسائل مفتوحة العدد عبر الواتس آب ومجانا دون دفع رسوم لشركة وسيطة. والأهم أنه يمكننا إضافة رعاة وإعلانات بين العناوين الإخبارية التي تضمن أيضا إحالات وزيارات جديدة لموقعك.

الهدر الثاني.. الإعلانات

حتى الآن، إعلانات الصحف الورقية تدر عوائد أكبر بكثير من إعلانات المواقع الإلكترونية.
ورغم أن قراء المواقع باتوا أكثر مئات المرات من قراء الصحف، فثمن الإعلان على المواقع لا يزال أرخص كثيرا، ربما لأن ثقافة المتحكمين في الإعلان الآن منغلقة على ما كان قبل نحو 5 سنوات.

هذه القناعات ربما تتغير قريبًا مع زيادة الشراء الإلكتروني، لكن الأهم أن تتحرك المواقع لتضع تقييمات حقيقية لقيمة جمهورها، من حيث قدرته الشرائية ونوعيته.
هذه التقييمات تعزز من جديد ضرورة وضع مقاييس جديدة للنجاح، تعزز ليس فقط كسب الجمهور الدائم الوفي، لكن تنتقي الجمهور الأكثر قيمة للمعلنين. مع وضع نماذج اقتصادية تحريرية مشتركة لبناء جمهور قيم دائم يعظم موارد المؤسسة من الإعلانات.
كما أن استخدام «جدران الدفع» يعزز من القيمة النوعية للقراء، ويزيد من تقديرات الإعلان لهم، لأنهم جمهور يدفع ليقرأ؛ ما يعني أن قدرتهم الشرائية أفضل من القدرة الشرائية للجمهور المجاني.

ويمكن للصحف زيادة مواردها أيضا عبر البحث عن رعاة لنشراتها البريدية وخدمة الواتس آب، ما يعني فتح الباب لمورد آخر.
هكذا يبدو قرار التحصيل الإلكتروني فرصة لتعظيم موارد الصحف من التوزيع المدفوع (جدران الدفع، والقوائم البريدية، وخدمة الواتس)، وعوائد الإعلانات المهدرة وإعادة الرعاة الإعلاميين.

إعلان