إعلان

اختزال الحياة.. أو في مديح الأشياء الزائدة على الحاجة

جمال عبد الجواد

اختزال الحياة.. أو في مديح الأشياء الزائدة على الحاجة

د. جمال عبد الجواد
09:53 م الإثنين 23 مارس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

فرض علينا الوباء إجراءات قاسية. هناك أمم فرض عليها حظر التجول التام. أدعو الله ألا نضطر للوصول إلى هذه المرحلة. في ظل الحجر الشامل والإغلاق التام يصبح الغذاء والعلاج هما فقط الأشياء التي يسمح للناس بالخروج للشارع من أجلها، أما ما عدا ذلك فعلى الناس الاستغناء عنه.

لقد جربنا بعضًا من هذا، فقد تم تقليل عدد الموظفين في مكاتب الحكومة، وأصبح الكثيرون منا يعملون من منازلهم، فتبين أن المكاتب التي نذهب لها كل يوم يمكن الاستغناء عنها. لقد تم إغلاق السينما والمسرح والحدائق والمحميات. هذه مجموعة أخرى من الأشياء التي أجبرنا على الحياة بدونها.

ربما مرت شهور طويلة منذ آخر مرة زرت فيها أيًا من هذه الأماكن، لكن هذا يختلف كثيرًا عن ألا تكون إمكانية الزيارة قائمة أصلاً. حتى مؤسسات التعليم أغلقت أبوابها، فهل المدرسة أيضا زائدة على الحاجة؟، يتحدثون عن تعليم عن بعد بوسائل رقمية بنفس جودة التعليم التقليدي، ولم لا؟! فالرقمنة هي مستقبل العالم، وعندها لن تكون هناك حاجة لكل نظار المدارس والوكلاء، ولأغلب المدرسين أيضًا، فكل هؤلاء ووظائفهم سيصبحون أشياء زائدة على الحاجة.

ما شعورك عندما تكتشف أن وظيفتك زائدة على الحاجة، وأن العمل الذي شعرت بالفخر للقيام به لسنوات لم يكن في الحقيقة سوى شيء يمكن الاستغناء عنه.

لقد تم اختزال الحياة فقط إلى الأشياء التي ندخل بعدها في عداد الأموات. لكن هذه حياة لا يمكن احتمالها إلا إذا كان هناك أمل في تجاوزها، وفي العودة لممارسة كل ما هو غير ضروري وزائد على الحاجة مثل لقاء الأصدقاء، وتدخين الشيشة والجلوس في قاعة سينما مزدحمة لمشاهدة فيلم سخيف.

الأشياء التافهة غير الضرورية هي ما تعطي لحياتنا طعمًا، وبغيرها تصبح الحياة ماسخة بلا معنى. لم يعد الناس في العالم يموتون من الجوع، فحتى الفقراء لديهم حد أدنى من الطعام يسد الرمق. لكن الحياة بغير الأشياء التافهة غير الضرورية تصبح معدومة القيمة، فالحياة تعني أكثر من مجرد الشهيق والزفير والحواس الخمس، فهي تشمل أيضًا الحق في ممارسة التفاهة والاستمتاع بالأشياء الزائدة على الحاجة.

حتى الفقراء يتمسكون بالأشياء الزائدة على الحاجة، ليس لأنهم مخبولون عديمو العقلانية، ولكن لأنهم يتمسكون بالحياة. كثيرًا ما استوقفتني اللاعقلانية الظاهرة على سلوك فقراء يجدون بالكاد قوت يومهم، ولكنهم مع هذا لا يكفون عن التدخين، أو أنهم لا يفوتون فرصة شراء جهاز "إل سي دي، ولاقط إرسال فضائي" أثناء التخفيضات السنوية الكبيرة التي ينظمها الهايبر ماركت الشهير. لقد كان بإمكان هؤلاء الفقراء الاستمتاع بطعام أفضل لأيامٍ إضافية لو استغنوا عن هذه السلعة التي لا شك في كماليتها، لكن على الجانب الآخر، فإن مجرد البقاء على قيد الحياة بفضل الحصول على ما يكفي من الطعام هو اختزال لا يتفق ومعنى الحياة الإنسانية، التي لا يمكن اختصارها في القيام بما هو ضروري، وما لا غنى عنه، فالقيام بما هو ضروري وما لا غنى عنه لا ينطوي على أي ممارسة لحرية الاختيار؛ في حين أن قضاء ساعات اختيارية أمام شاشة التلفاز في حرية كاملة، وكسل وبلاهة تامة، فيه بالتأكيد قدر أكبر من الحرية.

الكماليات إنسانية، والاستهلاك ليس نشاطًا يروج له التجار من أجل مزيدٍ من الأرباح. استهلاك الكماليات، وقضاء الوقت في أشياء يمكن الاستغناء عنها هو ما نفعله عندما نتحرر من الحاجة، وقد عرفنا قيمة كل ذلك عندما أجبرتنا كورونا على التخلي عنه؛ فدعونا نتطلع إلى يوم نسترجع فيه حياتنا العادية، المليئة بالأشياء الزائدة على الحاجة.

إعلان

إعلان

إعلان