إعلان

عصر الأفنديّة

د. ياسر ثابت

عصر الأفنديّة

د. ياسر ثابت
07:01 م الثلاثاء 27 فبراير 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يتعيّن أن نشير بدايةً إلى أن يعد الأفنديّة أوّل جيلٍ حديثٍ واعٍ بذاته في التّاريخ المصريّ. من هنا تأتي أهمية كتاب لوسي ريزوفا "عصر الأفندية: ممرات الحداثة في مصر خلال فترة الهيمنة الاستعمارية وبناء الأمة الحديثة" (دار الكتب خان، 2024) الذي ترجمه ببراعة محمد الدخاخني.

بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أن الكتاب إضافة مهمة في موضوعه، ويمكنك أن تدرك ذلك بمجرد تصفُح عناوين فصول الكتاب الذي يقع في 412 صفحة من القطع المتوسط. وهو في تقديرنا يتكامل بدرجة أو بأخرى مع كتبٍ تتطرق إلى عالم الأفنديّة في مصر، ومن أهم هذه المؤلفات باللغة العربية كتاب عبير حسن عبد الباقي "طبقة الأفندية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين" (مكتبة مدبولي، 2005).

إلا أن أهم مآخذي على الكتاب المهم الذي بين أيدينا هو تغييب قائمة المراجع التي لا غنى عنها في كتاب يشير إلى المصادر في سياق سطوره، فلا يكاد القارئ أو الباحث يعرف أن المقصود بهذه الإشارات هو أعمال إسرائيل غرشوني وجيمس جانكوفسكي Gershoni & Jankowski (1986) وزكاري لوكمان Zachary Lockman (1994) ومايكل غاسبر Michael Gasper (2009) وكثيرون غيرهم.

بالعودة إلى موضوع الكتاب، نقول إن الأفنديّة كانوا الفاعلين الرّئيسيين في الوطنيّة المصريّة الحديثة بأشكالها المتعدّدة: فقد كانوا صُنّاع الحياة السّياسيّة والمؤسّسات الاجتماعيّة والإنتاج الثّقافيّ في مصر الحديثة، وكذلك المستهلكين الأساسيّين لكلّ ذلك. وبوصفهم منتجات للتّعليم الحديث، ومن ثمّ أشخاصًا مُشبّعين بالعادات والخبرات الحديثة بشكلٍ رضائيّ، فقد كانوا العمّال ذوي الياقات البيضاء الّذين أداروا البيروقراطيّة الحديثة، والخبراء الّذين أشرفوا على سياساتها اليوميّة، وصُنّاع السّياسات الّذين صاغوها. وكانوا المحامين والأطبّاء والمعماريّين الّذين عملوا في الكثير من المهن الحديثة الّتي حلّت بشكل متدرج محلّ الأشكال التّقليديّة للعمل ولبّت حاجات الخدمات الحضريّة. وكانوا مُعلّمي المدارس الحديثة، الذين عملوا على إعداد أجيالٍ قادمةٍ من رجال (وبدرجة أقلّ، نساء) بمثل حداثتهم. وكانوا الصّحفيّين والكُتّاب الّذين شكّلوا المجال العامّ الوطنيّ النّاشئ من خلال الصّحافة ومن خلال النّشر، والمثقّفين والمُنتجين الثّقافيّين الّذين صَاغوا ثقافةً وطنيّةً حديثة. ومن الواضح أنّ القوّة العدديّة للأفنديّة ليست بأيّ حالٍ مسألةً حاسمةً لأنّ أهميّتهم لم تكمن في أعدادهم. لقد كانت أهمّيتهم الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة غير متكافئةٍ مع أعدادهم المطلقة الصّغيرة نسبيًّا.

وبوسعنا القول إن النُخب السياسية التي حكمت مصر لمعظم القرن العشرين بلغت سن الرشد بوصفها أفنديّة، وتقاسمت التجارب نفسها.

وخلال الفترة بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وأربعينيات القرن العشرين، كانت تجربة التحول إلى أفندي من الجيل الأول متشابهة بنيويًا، وحُدِّدت من خلال مجموعة مماثلة من الممارسات الاجتماعية والمعاني الثقافية.

ويمكن القول إن مجموعات اجتماعية أدت إلى نشوء الأفنديّة بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين، وأسهم التعليم الحديث في إنتاج مواطنين ليبراليين وفرض أنواع جديدة من الانضباط، في حين نظر إليه كثيرون على أنه وسيلة ليس فقط لاكتساب المعرفة والثقافة، وإنما الترقي أيضًا.

فئة الأفنديّة تشمل أيضًا أفرادًا شبه متعلمين (أو متعلمين بشكل مختلف) أو فارين من التعليم الديني أو علّموا أنفسهم بأنفسهم أو، في الواقع، لعبوا الدور فحسب.

وترى الباحثة لوسي ريزوفا أنه ليس ثمة طبقة أفنديّة، بالرغم من وجود مجموعات اجتماعيةٍ محددة – طلاب وعاملون من أصحاب الياقات البيضاء ومهنيون أحرار – تتكون في الغالب أو حتى بالكامل من أفنديّة. تم التعبير عن رأس المال الثقافي للأفندي ظاهريًا من خلال بدلةٍ على النمط الغربي وطربوش، وعادةً ما تمت ترجمته إلى رأس مال اجتماعي مُعتبر، بالنظر إلى قرب الأفندي الحقيقي أو المتصور من مصادر السلطة الاجتماعية والثقافية والسلطة السياسية والموارد.

دلّت كلمة الأفنديّة على فئة ثقافية وجماعة اجتماعية، تضم الأفراد الذين أظهروا علامات تشكيل محددة من الزي والسلوك، وخلال الفترة بين الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، رأينا من الناحية النصيّة انتشار استخدام لقب "أفندي" مصاحبًا الأسماء الشخصية في عددٍ لا يُحصى من الوثائق الأرشيفية. ومن الناحية البصرية، فإن الأفندي موجود في إعلانات المجلات بشكلٍ روتيني بوصفه المكمِّل الإعلاني المثالي. لم يكن الأفنديّة يمثلون غالبية قراء المجلات فحسب، بل لأنه من ناحية المفاهيم كان الأفندي هو المثل الأعلى للمصري الحضري الحديث الذي أراد معظم القراء أن يتشبهوا به – أو على الأقل هكذا افترضَ المعلِنون. ووفقًا للمنطق نفسه، استُخدِمت صورة الأفندي أيضًا في الرسومات الكاريكاتورية للصحافة كوسيلةٍ للتعليق على الأحداث الجارية.

تظل الحقيقة أن صورة الأفندي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بطموحاتٍ حديثة على نحوٍ مميز للتنقل الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية المتوسطة، بمجرد أن أصبحت فكرة التنقل الاجتماعي شائعة.

لقد رأى جيلٌ أقدم من المؤرخين الاجتماعيين الذين كتبوا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أن الطبقة الوسطى المصرية في فترة ما بين الحربين "ضعيفة ومشتتة"، فبالنسبة إلى تشارلز عيسوي، المؤرخ والأكاديمي في جامعتي برنستون وكولومبيا، "لم يكن ثمة كيان منفصل مماثل يسمى الطبقة الوسطى الحضرية". أخذ المؤرخون الاجتماعيون من الجيل الأكبر سنًا في الاعتبار المعايير الإمبريقية للدخل، ولاحظوا وجود عدة مجموعات تشغل موقعًا متوسط الدخل، وكان من ضمنها: أولًا، الأقليات الأجنبية؛ ثانيًا، التجار والحرفيون التقليديون الذين، كما لاحظ برغر، تمكنوا من جني دخل مُعتبر ولكن صحبة سلطة أو مكانة صغرى، وبالتالي استُبعِدوا من فئة الطبقة الوسطى الحديثة بسبب الافتقار إلى السلطة والافتقار إلى الحداثة؛ وثالثًا، الأفندية الذين عملوا كمهنيين أحرار أو بيروقراطيين فوق مستوى معيّن. مال هؤلاء الأفندية –إن لم يكونوا بالفعل من عائلات ميسورة- إلى تبنّي علامات هوية الطبقة العليا في أنماط حياتهم واستهلاكهم، وغالبًا ما تزاوجوا مع الطبقة العليا العثمانية – المصرية.

تختلف صورة الطبقة الوسطى بشكلٍ لافت للنظر وسط الجيل الأحدث من المؤرخين الذين يعملون وفق نموذج ومعايير مختلفة. فالثقافة –الإنتاج الفكري والثقافة الشعبية- تجعل الطبقة الوسطى تظهر في كل مكان. وتشهد الصحافة والمطبوعات المتكاثرة على سوقٍ للطبقة الوسطى، وكذلك الخطابات التي تُركز على الاستهلاك أو الصحة أو الرياضة أو الأسرة أو الحضارة أو العلم.

ربما ساد انطباع بأن الأفندي يقف في مكانة طبقية أعلى من "أولاد البلد"، إلا أنه في الممارسة اليومية، اشتركت أُسر الأفندية وتلك التي تنتمي إلى الطبقات الوسطى التقليدية في المساحات الاجتماعية نفسها –الشوارع نفسها (الحارات نفسها) والمنازل نفسها- وفي الواقع قد يكونون أقرباء مباشرين أو، حتى، اعتمادًا على الظروف، يقوم شخص واحد بأداء دورين اجتماعيين مختلفين في لحظاتٍ مختلفة. وقد عاش الكثير من أولاد البلد على ميزانيات مماثلة للأفندية (في الواقع، يمكن أن يكون الكثير من الأفنديّة أفقر إلى حدٍ كبير من جيرانهم التجار التقليديين)، واستهلك كثير منهم سلعًا مادية وثقافية بطرقٍ متشابهة جدًا في معظم الأوقات.

ولعل أفضل مثالٍ على مدى قُرب الأفنديّة اجتماعيًا من العالم التقليدي لأولاد البلد هو الزواج؛ إذ تزوج معظم الأفندية من بنات البلد، وهن من المجموعات المسماة "تقليدية"، في ظل عدم وجود تمييز واضح بين الجانبين في قضايا الدخل أو الاستهلاك أو محل الإقامة.

ويرى المؤرخون أن الأفندية كانوا لاعبين أساسيين في التطور السياسي لمصر الحديثة، فقد كانوا مركزيين بالنسبة إلى الحركة الوطنية التي ظهرت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر في سياق الاحتلال البريطاني، وقادوا إلى إقامة دولة وطنية مصرية مستقلة اسميًا في شكل ملكية دستورية في عام 1923. كان الأفنديّة صُناع هذه الحركة الوطنية –أدمغتها وعضلاتها ومُنظّروها ومروّجوها وأغلبية جمهورها. ومع ذلك، بعد بضعة عقود، في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، شكّل الأفنديّة أيضًا الأعضاء العاملين فيما يسمى بالحركات الراديكالية –الإخوان المسلمون وحزب مصر الفتاة والشيوعيون. كل هذا صحيح. لكن إذا أُخِذَ هذا إلى نهايته المنطقية، فإن الأفنديّة كانوا في الواقع مسؤولين عن كل النضال السياسي الذي أدى إلى إنشاء دولة وطنية عام 1923، وكذلك عن القوى الاجتماعية التي عملت على تفكيك تلك الدولة نفسها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

كان الأفندية الأوائل للعقود الوسطى نِتاج مؤسسات محمد علي التعليمية الحديثة والبعثات إلى أوروبا، وظهر منهم أطباء ومهندسون وصحفيون ونشطاء سياسيون، ومثَّلوا نخبة اجتماعية جديدة ومؤسسات اجتماعية جديدة وأساليب حياة جديدة.

وترى لوسي ريزوفا في كتابها أن أفنديّة مطلع القرن العشرين قدَّموا أنفسهم باستمرار على أنهم "الوكلاء الشرعيون الوحيدون للتغيير وتجسيد الحضارة"، وهو الموقف الذي حافظوا عليه من خلال إنتاج المعرفة الفنية والأخلاقية والفنية والاجتماعية حول آخريهم الاجتماعيين التابعين. وعرَّف الأفنديّة –بصفتهم المدعين الوحيدين للوسط الاجتماعي التقدمي- أنفسهم أيضًا قبالة من هم أعلى منهم رتبةً من الناحية الاجتماعية، النخبة العثمانية، التي حرمها افتقارها للإنتاجية وعاداتها المحلية غير الحديثة بدون أدنى شك من أهليتها كمدّعيةٍ لمكانةٍ نخبوية متوافقة مع النظام الحديث.

إعلان